لطالما كان نظام التعليم التقليدي، الذي يقضي الطالب فيه 12-14 عاماً من عُمره في رياض الأطفال والمدارس حجر الزاوية بالتعليم الرسمي في كثير من بلدان العالم. وبرغم ذلك، ومع تطور متطلبات العالم الحديث، هناك حاجة ملحَّة إلى إعادة تقييم فاعلية هذا النظام في اكتساب الطلاب ما صُمم التعليم من أجله، وتقييم تحقيق مقاصده بعد قضاء الطالب هذه الأعوام على مقاعد الدراسة. وتعيد هذه المقالة النظر في تصور المشهد التعليمي، والتوجهات المستقبلية لنظام التعليم لمدة 12 عاماً، مستخلصةً رؤى من وجهات نظر عالمية، وبيانات تقارير دولية منشورة.
يضرب النظام التعليمي ذو الـ12 عاماً (من الصف الأول إلى الصف الثاني عشر مع الأخذ في الحسبان أن عامَي رياض الأطفال ليسا إلزاميين في كثير من الأنظمة التعليمية) جذوره في الأطر التعليمية التاريخية؛ وفي حين أن أهدافه الأساسية تطورت بمرور الوقت؛ فإنها لا تزال تركّز على توفير أساس أكاديمي شامل، وإعداد الطلاب للتعليم العالي، أو لتغذية القوى العاملة. وعندما حدَّد مخططو السياسات التعليمية مدة الدراسة رأوا أن نتائج النظام التعليمي الممتد 12 عاماً ستكون متعددة الأوجه؛ فإضافة إلى المعرفة الأكاديمية، يُتوقع أن تبني هذه المدة المهارات المختلفة الناعمة، مثل: التواصل، والتفكير النقدي، والإبداع، وحل المشكلات، وتنمية الذكاء العاطفي والاجتماعي؛ هذا إلى جانب القيم الأساسية في بناء الشخصية الصالحة، مثل تحمل المسؤولية، والامتثال للسلوك الأخلاقي، والمواطنة العالمية.
وعلى الرغم من نُبل التخطيط والهدف؛ فإن هذا النظام يواجه تحديات كبيرة. وغالباً ما يحد هيكل المناهج الجامد من الابتكار، ويفشل في استيعاب أساليب التعلم المتنوعة. كما أن أنظمة الاختبارات المعيارية الموحدة تدفع الطلاب إلى الحفظ عن ظهر قلب بدل التطوير الشامل، وتهمل المواهب الفردية واحتياجات الطلاب. وتسلط الاتجاهات العالمية الضوء على اتساع الفجوة بين المهارات التي تُدرَّس في أنظمة التعليم التقليدية، وتلك التي تتطلبها القوى العاملة الحديثة. ويبحث أصحاب العمل عن مرشحين تفوق قدراتهم المؤهلات الأكاديمية، مثل امتلاك مهارات ناعمة أساسية لنجاح العمل، ولا سيما القدرة على التواصل والتفاوض والتعاون، والعمل ضمن فِرق، والتكيف والمرونة، ومحو الأمية الرقمية المتطورة باستمرار. لكن نظرًا إلى كثرة التوقعات التعليمية، وزخم المناهج التعليمية، وكثرة المواد الدراسية، لا يُلتفَت- للأسف- إلى هذه المهارات في الأطر التعليمية التقليدية.
فهل تحقق 12 عاماً يمضيها الطالب في رحلته الدراسية مقاصد التعليم في العالم العربي؟ تظهِر بيانات الاختبارات الدولية تحديات متعددة في مستويات القراءة والرياضيات والعلوم بالدول العربية، تشمل ضعف الأداء الذي قد يكون دون المتوقع على المستوى الدولي مقارنة بالدول الأخرى؛ كما تظهِر البيانات فجوة في الأداء بين الجنسين؛ إذ يبدو أداء الذكور أفضل من أداء الإناث أحياناً أو العكس في بعض الدول العربية، وحاجة ملحَّة إلى المراجعة والجودة بما يضمن تحقيق الطلاب نتائج جيدة في الاختبارات الدولية، فضلاً عن تحديات التعلم من بُعد، وما عانته دول عربية كثيرة من فاقد تعليمي، ولا سيما في ظل عدم وجود أنظمة رصينة للدعم والمتابعة والخطط الشخصية.
وقد تبنَّت أنظمة تعليمية عدَّة طرائق مبتكرة لمعالجة أوجه القُصور في نظم التعليم التقليدية. وتحرص فنلندا، المشهورة بنظامها التعليمي، على اتباع نهج شامل، وتشدد على التعلم المتمحور حول الطالب، والحد الأدنى من الاختبارات الموحدة؛ في حين أن سنغافورة تركز على تزويد الطلاب بمهارات القرن الحادي والعشرين عن طريق التعلم المتعدد التخصصات -الذي يُعد من أهم الاتجاهات التعليمية الآن، والتعليم القائم على التجربة. وفي الوقت نفسه تعزز كندا الشمولية والتنوع، وترسّخ ثقافة التسامح والاحترام في المدارس. وفي هذه الأنظمة التعليمية تمتد الابتكارات في مجال التعليم إلى مجالات متكاملة تركز على التعليم بمنهج شمولي، من تصميم المناهج الدراسية إلى منهجيات التدريس، والتعلم القائم على الأداء والمشروعات؛ إذ يعمل الطلاب في مشروعات العالم الحقيقي؛ ما يصقل مهارات التفكير النقدي وحل المشكلات؛ كما يعزز التعلم المدمج، الذي يجمع بين الموارد عبر الإنترنت والتعليم التقليدي في الفصول الدراسية، الاستقلالية، وبناء مهارات البحث العلمي، ويسهم في بناء كل طالب تجارب التعلم الشخصية الخاصة به.
ولا تقوم جميع أنظمة التعليم في العالم على 12 عاماً؛ إذ يوجَد تباين كبير في مُدد الدراسة والهياكل التعليمية العالمية؛ فعلى سبيل المثال تشتهر فنلندا بنظام تعليمي قصير وفعال؛ إذ يمتد التعليم الإلزامي فيها تسعة أعوام فقط، من سن 7 إلى 16 عاماً، تليها مرحلة اختيارية للتعليم الثانوي العام أو التعليم المهني؛ وتتراوح مدَّة التعليم الإلزامي في أستراليا بين تسعة وعشرة أعوام (يبدأ التعليم الإلزامي في بعض الولايات من سن خمسة أعوام، وفي بعضها الآخر من سن ستة أعوام). أما في روسيا، فتبدأ مدَّة التعليم الإلزامي من سن سبعة أعوام، وتستمر حتى سن 17 عاماً؛ ما يجعل مدة التعليم الإلزامي 10 أعوام. وتعتمد الولايات المتحدة الأميركية على نظام تعليمي يستمر 12 عاماً، ويتمثل في التعليم الإلزامي من الصف الأول إلى الصف الثاني عشر.
وينبغي أن يكون التركيز على نوعية التعليم بدلاً من مدته. ومن الضروري تقييم الأنظمة التعليمية وتكييفها باستمرار لضمان تلبيتها الاحتياجات المتطورة للمجتمع، وتزويد المتعلمين بالمهارات والمعرفة المطلوبة للنجاح. ولا شكَّ في أن سؤالاً مثل: هل تُعد 12 عاماً من التعليم العام كافية، أم قليلة، أم طويلة تُضيع وقت الطالب، سؤال دقيق تعتمد الإجابة عنه على عوامل مختلفة، منها السياق الثقافي، والاحتياجات المجتمعية، والأهداف الفردية؛ ففي حين أن 12 عاماً توفر تعليماً تأسيسيّاً لكثيرين، يجادل بعضهم بأنها قد لا تُعد الطلاب على نحو كافٍ لتعقيدات العالم الحديث. وعلى العكس من ذلك يعتقد تربويون معارضون أن توسيع نطاق التعليم العام يمكن أن يؤخر اكتساب المهارات التي قد يحتاج إليها المجتمع، وخصوصاً أن هناك تعليماً عالياً بانتظار الطالب ربما يشكل عبئاً آخر.
ويتعين على صانعي السياسات والمعلمين وأصحاب المصلحة التعاون لإعادة تصميم المناهج الدراسية، وإعطاء التعلم مدى الحياة الأولوية. ونستطيع ضمان بقاء التعليم مناسباً وتمكينيّاً في مواجهة التغيرات المجتمعية والتكنولوجية السريعة للتركيز على ما هو أهم طوال الأعوام الـ12 التي يقضيها الطالب في المدرسة. ويتيح لنا استخلاص الرؤى من وجهات نظر عالمية، وتبني مناهج مبتكرة، وتعزيز التعاون العابر للحدود، إنشاء مشهد تعليمي أكثر إنصافاً وشمولية وفاعليَّة للأجيال المقبلة.
وتتجاوز جودة التعليم مجرد المدة التي يقضيها الطالب في نظام التعليم العام. إن إصلاح نظام التعليم القائم على 12 عاماً أمر شاق وواعد على حد سواء. وبرغم أن النظم التقليدية، وبيروقراطية بعض أنظمة التعليم، تمثلان عقبات كبيرة؛ فإن هناك فرصاً كبيرة للتغيير. ويمكن للتعديل التدريجي، وتجريب المبادرات المبتكرة، وتعزيز ثقافة التجريب، أن تمهد الطريق إلى تحول جوهري في النظام التعليمي. وتُعد الجهود التعاونية التي تشمل صانعي السياسات والمعلمين وأولياء الأمور والطلاب والمجتمع الأوسع ضرورية لدفع التغيير المنهجي قدماً. وإضافةً إلى ذلك؛ فإن الاعتراف المتزايد بالحاجة إلى تدخل القطاع الثالث (المؤسسات والهيئات غير الربحية التي تسعى إلى تحقيق أهداف اجتماعية أو إنسانية أو بيئية) وإسهامه في دعم التعليم، وتعزيز مهارات القرن الحادي والعشرين، والكفاءات العالمية بما يناسب كل سياق، يوفر زخماً وثراءً. وعندما نتبنى إمكانية التغيير، ورسم مسار جماعي نحو نظام تعليمي أكثر استجابة وشمولية، نستطيع إطلاق العنان لإمكانيات متعلمينا الكامنة، ودفع المجتمع نحو مستقبل أكثر فاعلية.
*مستشار مدير جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية